فصل: 4- الرأي الراجح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الواضح في علوم القرآن



.موقف العلماء منها:

وللعلماء في تلك الآيات وأمثالها: موقف واحد من حيث الابتداء، ثم يختلفون بعد ذلك:

.1- الموقف الواحد:

يتمثل في حمل المتشابه من الآيات على المحكم منها، أي: حمل الآيات التي تشير إلى تعيين جهة لله تعالى، أو مكان له سبحانه، أو تعيين معية حقيقية منه للعباد، أو إثبات النقلة والمجيء الحسّي لله تعالى، على المحكم من الآيات، من مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. كما يحمل على قوله سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 1- 4].
فيقولون: ليس ظواهر هذه الآيات مرادة لله تعالى، بل يجب تنزيهه سبحانه عن تلك الظواهر المستحيلة عليه.

.2- موضع الاختلاف بعد ذلك:

أ- من كان في خير القرون الثلاثة ومن بعدهم بقليل، ويلحق بهم من يقول بقولهم إلى يومنا هذا، ويسمّون السلف أو (المفوّضة): يقولون: نفوّض معاني هذه المتشابهات إلى الله تعالى، فيقولون في قوله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} [طه: 5] ننزه الله تعالى عن الجلوس واتخاذ حيّز ومكان. ثم نفوّض المراد بذلك إلى الله تعالى.
ب- من كان في أواخر القرن الرابع وما بعد، ويلحق بهم من يقول بقولهم إلى يومنا هذا، ويسمّون الخلف أو (المؤوّلة)، يقولون: نؤوّل معاني هذه المتشابهات بالاستعانة بآيات أخرى وأساليب البيان، فيقولون في قوله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} [طه: 5] ننزّه الله تعالى عن الجلوس واتّخاذ حيّز ومكان، ثم نرى أن المراد بها إثبات الملك والسلطان التام لله تعالى، فإذا ملك أكبر المخلوقات- العرش- ملك ما دونه.
والذي دفع الخلف إلى هذا التأويل وأمثاله هو اختلاط فكرة اليهود المجسّمة لله تعالى بأفكار بعض الزائغين من المسلمين، وتعلّق بعض آخر بظواهر النصوص، وفهمها فهما مستقلا عن غيرها، علما أنها تمثّل جميعها وحدة كاملة.
قال الله تعالى في حق اليهود وأمثالهم: {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67].
ج- وذكر الإمام السيوطي مذهبا ثالثا سوى مذهبي السلف والخلف، وهو مذهب المتوسطين، فقال: وتوسّط ابن دقيق العيد فقال: إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر، أو بعيدا توقّفنا عنه، وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه، وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرا مفهوما من تخاطب العرب قلنا به من غير توقيف، كما في قوله تعالى: {يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] فنحمله على حق الله تعالى وما يجب له.
قلت: وعلى هذا يتفق السلف والخلف والمتوسطون على مرادات واحدة في بعض الآيات المتشابهات، ففي قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ} [الرحمن: 26- 27] يبقى ذاته سبحانه. وفي قوله تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ} [النحل: 26] يقولون: أتى عذاب الله تعالى المستحقين له.
وفي قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ} [الزخرف: 84] يقولون: هو إله معبود بحق من أهل السماء والأرض. وفي قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ...} [الواقعة: 85] يقولون: ملائكة الله تعالى... وأمثالها.

.3- الفرق بين السلف والخلف:

تبيّن أن السلف والخلف متّفقون على التأويل الإجمالي في آيات الصفات المتشابهة، ثم يفوّض السلف معانيها إلى الله تعالى.
أما الخلف فيعمدون إلى تأويلها تفصيلا، اعتمادا على النصوص الأخرى وبيان لغة العرب.

.4- الرأي الراجح:

الرأي الراجح هو رأي السلف، لأدلة منها:
1- إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصحابته رضوان الله تعالى عليهم، وقفوا عند الآيات المتشابهات، ولم يؤوّلوها بأيّ تأويل قريب أو بعيد.
2- إن المتشابه هو ما لا يوقف على المراد منه، فيكون التفويض هو الحقّ، قال الله تعالى: {مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] ثم قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا} [آل عمران: 7]. والواو في (والراسخون) لابتداء الكلام واستئنافه.
3- قال صلّى الله عليه وسلّم لعائشة رضي الله تعالى عنها: «... فإذا رأيت الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم...».
4- أخرج الدارمي عن سليمان بن يسار: أن رجلا يقال له ابن صبيغ قدم المدينة المنوّرة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعدّ له عراجين النخل، فقال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن صبيغ، فأخذ عمر عرجونا فضربه حتى دمّى رأسه. وجاء في رواية أخرى فضربه حتى ترك في ظهره دبرة، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا، فأذن له أن يعود إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين.
والدّبرة بفتحات ثلاث هي قرحة الدابة، والمراد هنا أنّه صيّر في ظهره من الضرب جرحا داميا كأنه قرحة في دابة.
ورضي الله تعالى عن عمر فإن هذا الأثر يدلّ على أن ابن صبيغ فتح أو حاول أن يفتح باب فتنة بتتبعه متشابهات القرآن، يكثر الكلام فيها، ويسأل الناس عنها، فأغلقه رضي الله عنه بتأديبه.
5- سئل مالك- وقبله أم سلمة رضي الله عنها- عن قوله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} [طه: 5]. فغضب واحمرّ وجهه ثم قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة، وأظنك رجل سوء، أخرجوه عني. فأخرجوه من المسجد.
قال الزرقاني: يريد رحمه الله تعالى أن الاستواء معلوم الظاهر بحسب ما تدلّ عليه الأوضاع اللغوية، ولكن هذا الظاهر غير مراد قطعا، لأنه يستلزم التشبيه المحال على الله تعالى بالدليل القاطع، مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]
والكيف مجهول: أي تعيين مراد الشارع مجهول لنا لا دليل عندنا عليه ولا سلطان لنا به. والسؤال عنه بدعة؛ أي الاستفتاء عن تعيين هذا المراد على اعتقاد أنه ما شرعه الله بدعة، لأنه طريقة في الدين مخترعة مخالفة لما أرشدنا إليه الشارع من وجوب تقديم المحكمات وعدم اتباع المتشابهات.
وما جزاء المبتدع إلا أن يطرد ويبعد عن الناس خوف أن يفتنهم لأنه رجل سوء، وذلك قوله: وأظنك رجل سوء، أخرجوه عني. انتهى.

.الحكمة من ذكر المتشابه:

1- رحمة الله بالإنسان، فقد أخفى سبحانه وقت الساعة (يوم القيامة) ليبقى الناس في كدح واستعداد، وليبتعدوا عن الخوف الذي يفتك بنفوسهم، ويقعدهم عن العمل.
2- الابتلاء والاختبار، في إيمان البشر بالغيب ثقة بخبر الصادق، وتميّز المؤمنين المهديين عن الكفرة وأهل الزيغ والضلال.
3- إقامة الدليل على عجز الإنسان وجهالته مهما عظم استعداده وغزر علمه، إذا ما قورن علمه بعلم الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].
4- كلما كان التشابه موجودا، كان الوصول إلى الحق أشق، وزيادة المشقة تقتضي زيادة الأجر والثواب.
5- اشتمال القرآن الكريم على المحكم والمتشابه، يضطر الناظر فيه إلى البحث عن الأدلة، فيخلص الراسخ في العلم من ظلمة التقليد، ويتميز الخواص عن العوامّ، وتبرز مكانة العقل وأهمية إعماله في فهم آيات كتاب الله خاصة، وفي فهم دلائل قدرة الله في الكون عامة.

.الفصل الثالث افتتاحيات السور:

افتتح الله تعالى السور في كتابه العزيز بعشرة أنواع لا يخرج شيء من السور عنها:
1- الاستفتاح بالثناء عليه عزّ وجلّ، نحو: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}- {تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وذلك في ست سور.
2- الاستفتاح بحروف التهجي، نحو: (الم- المص- كهيعص-) وذلك في تسع وعشرين سورة.
3- الاستفتاح بالنداء، نحو: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، وذلك في عشر سور.
4- الاستفتاح بالجمل الخبرية نحو: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ} وذلك في إحدى وثلاثين سورة.
5- الاستفتاح بالقسم، نحو: {وَالصَّافَّاتِ}، {وَالذَّارِياتِ}. وذلك في خمس عشرة سورة.
6- الاستفتاح بالشرط، نحو: {إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ} وذلك في سبع سور.
7- الاستفتاح بالأمر، نحو: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ}- {اقرأ} وذلك في ست سور.
8- الاستفتاح بالاستفهام، نحو: {عَمَّ يَتَساءَلُونَ}... وذلك في ست سور.
9- الاستفتاح بالدعاء، نحو: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}... وذلك في ثلاث سور.
10- الاستفتاح بالتعليل، نحو: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ... وذلك في سورة واحدة.

.معاني الأحرف المقطعة أوائل السور (حروف التهجي):

اختلف العلماء في معاني تلك الأحرف على قولين:
القول الأول: إن هذا علم مستور استأثر الله تعالى به؛ قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: في كلّ كتاب سر، وسرّه في القرآن أوائل السور.
وقال عليّ رضي الله عنه: إن لكلّ كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي.
وروى أبو ظبيان عن ابن عباس أنه قال: عجزت العلماء عن إدراكها. وقال الحسين بن الفضل: هو من المتشابه. وقال الشّعبيّ: إنها من المتشابه نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله عزّ وجلّ.
القول الثاني: إن المراد منها معلوم، وذكروا فيه واحدا وعشرين وجها، فمنها البعيد ومنها القريب، ونختار ثلاثة أوجه منها:
أحدها: روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه سبحانه، فالألف من (الله) واللام من (اللطيف) والميم من (المجيد). أو الألف من (آلائه). واللام من (لطفه). والميم من (مجده).
قال ابن فارس: وهذا وجه جيّد، وله في كلام العرب شاهد:
قلنا لها قفي فقالت قاف.
فعبّر عن قولها وقفت ب ق.
وقال زهير:
بالخير خيرات وإن شرا فا ** ولا أريد الشرّ إلا أن تا

أراد: وإن شرا فشرّ، وأراد: إلا أن تشاء.
وفي الحديث: «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة» وهو أن يقول في: (اقتل) اق، وكما قال صلّى الله عليه وسلّم: «كفى بالسيف شا» معناه: شافيا.
ثانيها: إن الله تعالى أقسم بهذه الحروف، بأن هذا القرآن الذي يقرؤه محمد صلّى الله عليه وسلّم هو الكتاب المنزل لا شكّ فيه، وذلك يدلّ على جلالة قدر هذه الحروف، إذ كانت مادة البيان، وما في كتب الله تعالى المنزلة باللغات المختلفة، وهي أصول كلام الأمم بها يتعارفون، وقد أقسم الله تعالى بـ: (الفجر) و: (الطور)، فكذلك شأن هذه الحروف في القسم بها.
ثالثها: إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه، وقال بعضهم فيما حكى الله تعالى عنهم: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26].
فأنزل الله تعالى هذا النظم البديع ليعجبوا منه، ويكون تعجّبهم سببا لاستماعهم، واستماعهم له سببا لاستماع ما بعده، فترقّ القلوب، وتلين الأفئدة.

.الحكمة من افتتاحيات السّور:

1- إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يتحدّى المشركين بالقرآن الكريم مرة بعد أخرى فلما ذكر هذه الحروف دلّت قرينة الحال على أن مراده تعالى من ذكرها أن يقول لهم: إن هذا القرآن إنما تركّب من هذه الحروف التي أنتم قادرون عليها، فلو كان هذا القرآن من قبل البشر لوجب أن يقدروا على الإتيان بمثله.
2- إن الله تعالى افتتح السور بهذه الحروف إرادة منه للدلالة بكل حرف منها على معان كثيرة، لا على معنى واحد، فتكون هذه الحروف جامعة لأن تكون افتتاحا، وأن يكون كلّ واحد منها مأخوذا من اسم من أسماء الله تعالى، وأن يكون الله تعالى قد وضعها هذا الموضع فسمّي بها.
3- إنها مأخوذة من صفات الله في إنعامه وإفضاله ومجده، للدلالة عليها والتعريف بها.

.الباب السادس النسخ:

الفصل الأول: معنى النسخ، وجوازه.
الفصل الثاني: وقوع النسخ في القرآن، وأنواع النسخ.

.الفصل الأول النسخ (معناه- جوازه- أهميته):

.1- معنى النسخ:

.1- في اللغة:

يطلق النسخ في اللغة ويراد به معنيان:
أ- النقل: أي نقل الشيء وتحويله من حالة إلى حالة مع بقائه في نفسه، ومنه: نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه. وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم بقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 29] أي ننقل أعمالكم إلى الصحف، ومن الصحف إلى غيرها.
ب- الإزالة: بمعنى رفع الشيء وإعدامه، ومنه: نسخت الشمس الظل إذا أزالته، ونسخت الريح آثار القدم أي أعدمته. وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم بقوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ} [الحج: 52] أي يزيل ويعدم وساوس الشيطان وتزييفه.